بين الحدود والكلمات.. رواية النساء الإيرانيات الكاتبات في المنفى
تقول الكاتبة الأميركية، جامايكا كينكيد، في رواية "لوسي": "من تصور أن العالم الذي كنت أعيش فيه يمكن أن يكون رقيقًا ومريحًا وهادئًا كان خارج قدرتي، لذا وقفت هناك وبكيت".
ويعد اليوم العالمي للمرأة، الذي يوافق 8 مارس (آذار) من كل عام، يومًا بارزًا للنساء اللواتي عبرن الحدود، ووجدن في الأراضي الجديدة فرصة لإحياء هويتهن وحريتهن من خلال الكتابة.
والكاتبات المهاجرات هن راويات لقصصهن الشخصية ومرآة لعرض مصير باقي النساء، في تقاطع الجنسانية والهوية والهجرة. وفي عالم غالبًا ما يتم تجاهل طبيعة هذه الطبقات فيه على مر العصور، فالكتابة بالنسبة لهن ليست فقط خيارًا، بل ضرورة للبقاء والمقاومة.
التقاطع والهوية النسائية للكاتبة المهاجرة: ثلاث هويات متشابكة
يوضح مفهوم "التقاطع" كيف أن الهويات المختلفة يمكن أن تخلق تحديات خاصة. وفي هذا السياق، يتداخل كون الشخص امرأة، وكاتبة، ومهاجرة. وبالنسبة للكاتبة الإيرانية تتشكل هذه التداخلات في فضاءين مختلفين: إيران؛ حيث ترتبط كينونة المرأة بالتمييز والرقابة الأدبية، والهجرة إلى بلد جديد؛ إذ يواجه الكاتب المهاجر تحديات جديدة.
وفي إيران، تعتبر الكتابة بحد ذاتها تحديًا، لكن كون الشخص امرأة يزيد من هذه التحديات. في صناعة الطباعة والنشر الإيرانية، كانت الكلمات النسائية دائمًا تحت السيطرة والقيود؛ ليس فقط بسبب المحتوى، بل بسبب الهيكل الذي لا يزال يخضع لسيطرة الآراء الذكورية. وتواجه الكاتبات الإيرانيات، خصوصًا أولئك اللواتي يكتبن عن حياة النساء، والحريات الشخصية، والهوية النسائية، الرقابة المشددة دائمًا.
ومع ذلك، فإن الهجرة، على عكس المتوقع، لا تعني نهاية القيود. وككاتبة إيرانية في السويد، أدركت أن المهاجرة في هذا البلد، أو ربما في بلدان مضيفة أخرى، تترتب عليها تحديات من نوع آخر.
وفي حين أنه لا توجد رقابة حكومية هنا، فإن الخفاء وصعوبة الوصول إلى سوق النشر قد حلَّت محلها. الكُتاب المهاجرون، خاصة إذا لم يكتبوا بلغة البلد المضيف، يُهمشون غالبًا ويشعرون كأنهم يعانون نوعًا من "التيه اللغوي". كما أن الناشرين وسوق الكتب يعيرون اهتمامًا ضئيلاً بأعمال الكُتّاب غير الغربيين، إلا إذا كانت القصص المقدمة تتماشى مع الصور النمطية السائدة حول الهجرة، والقمع، والمعاناة.
وبالنسبة للكاتبات الإيرانيات، فإن الهجرة ليست مجرد انتقال جغرافي، بل هي عبور مجموعة من القيود إلى مجموعة أخرى. ويجب على الكاتبات، في إيران، أن يكافحن لإثبات أنفسهن وتجاوز الرقابة والقمع. في الغرب، غالبًا ما يجدن أنفسهن في سوق نشر مهمش بوصفهن "أقلاما" غير معروفة، وتحدد الحدود غير المرئية أي الكلمات التي تستحق أن تُقرأ. وعلى الرغم من أنهن قد يحظين بالاهتمام في بعض الأحيان، ولكن عندما تتماشى رواياتهن مع توقعات الجمهور الغربي.
انتشار آثار في المنفى: قيود جديدة في البلد المضيف
بالنسبة للكاتبات المهاجرات، الكتابة في الحرية ليست دائمًا تعني الظهور أو الانتشار. على الرغم من عدم وجود رقابة رسمية، فإن نشر الأعمال في البلد المضيف يواجه تحديات جديدة، بدءًا من قلة الناشرين المتخصصين وصولاً إلى قلة الجمهور.
وتقول رامش صفوي، الكاتبة المقيمة في السويد، عن هذه التجربة لـ"إيران إنترناشيونال": "أنا، ككاتبة كتبت في كل من إيران والمنفى، أعتقد أن الكتابة في المنفى، رغم أنها توفر حرية أكبر وتكون محصنة ضد الرقابة، فإن لها عيوبها الخاصة أيضًا. الكتاب المهاجرون يواجهون تراجعًا كبيرًا في عدد القُرّاء".
وتضيف صفوي أن بعض الناشرين الإيرانيين في المنفى، مقارنة بالناشرين ذوي الخبرة داخل إيران، ليس لديهم معرفة أو فهم عميق لاختيار ونشر الأعمال الفارسية، وأحيانًا يظهرون تحيزًا شخصيًا في التعامل مع الأعمال. وتكمل قائلة: "بالإضافة إلى ذلك، يتركز اهتمام الناشرين في الخارج بشكل أساسي على الحصول على الدعم الحكومي بدلاً من نشر أعمال ذات جودة عالية، مما يؤدي إلى نشر الكتب مع أخطاء فادحة".
الرقابة والهجرة وتحديات الكتابة في الغرب
هاجر العديد من الكاتبات الإيرانيات؛ بسبب الرقابة والقمع في إيران، ولكن الهجرة لا تعني دائمًا الحرية الكاملة. القيود على الكتابة في المنفى قد تكون غير مرئية، لكنها لا تزال حقيقية. الكاتبات يكتبن بين الحدود والتوقعات؛ بين ماضٍ جعلهن مغيبات ومستقبل لم يقبل حضورهن بالكامل بعد.
وتضيف ماندانا حيدريان، الكاتبة المقيمة في السويد، في هذا الصدد: "بعد الهجرة، عندما أمسكت بالقلم لأول مرة، كنت أعتقد أنه نظرًا للموقع الجغرافي، ستتدفق الكلمات بلا خوف من الرقابة على الورق، ويمكن للقراء أن يتقابلوا مباشرة مع أفكار الكاتب. ولكنني سرعان ما اكتشفت أن حرية الكتابة هنا في هذا الجانب من العالم أيضًا لها طبقات معقدة؛ طبقات غير مرئية يمكن أن تكون مقيدة بقدر ما كنت أعرفه قبل الهجرة، خاصة للمرأة التي لديها رغبة في قول الحقيقة".
وتؤمن حيدريان بأن الكتابة دائمًا ما تواجه عقبات، وهي عقبات تختلف بين الشرق والغرب، ولدى النساء والرجال أشكال مختلفة. لكنها تضيف قائلة: "لكن جوهر الحرية الكتابية هو الوقوف الثابت ضد القيود والإصرار على رواية الحقيقة. الحقيقة التي قد تكون غير مريحة للآخرين، لكن من الضروري أن يرويها الكاتب، وهذا أمر لا يمكن إنكاره".
فرص ومستقبل الكتابة للإيرانيات المهاجرات
على الرغم من التحديات العديدة، فإن الهجرة قد وفرت لبعض الكاتبات الإيرانيات فرصة للانتشار والتأثير بشكل أكبر؛ فقد تمكّن بعضهن من ترجمة أعمالهن إلى لغات أخرى ومِن ثمّ الوصول إلى جمهور أوسع. كما أن وسائل الإعلام الدولية، رغم توجهاتها الانتقائية، قد قدمت في بعض الحالات دعمًا وتقديمًا للكتّاب المهاجرين.
لكن هل توفر الهجرة صوتًا أعلى؟ أم إنها تجعل الصوت أقل وضوحًا وسط أصوات أخرى؟ الإجابة عن هذا السؤال تعتمد على العديد من العوامل؛ بما في ذلك قدرة الكاتبات على إنشاء شبكات دعم، والوصول إلى فرص النشر، والإصرار على رواية قصصهن الأصلية، حتى في مواجهة ضغوطات السوق.
8 مارس: يوم الكتابة دون خوف
كتبت النساء الإيرانيات في ظلام الرقابة، في ظل الصمت القسري. ولم يتركن القلم في المنفى الذي كان بالنسبة للكثيرات نهاية الكتابة. الكتابة بالنسبة لهن لم تكن مجرد خيار، بل كانت وسيلة للبقاء والصراخ في عالم لا يريد أن يسمع أحيانًا.
8 مارس ليس مجرد مناسبة للاحتفال بالنساء؛ بل هو يوم لتذكير قلم النساء اللاتي يكتبن بين الحدود واللغات والعوالم التي إما قمعتهن أو تجاهلتهن.
ماذا سيكون المستقبل؟ ربما يأتي يوم تستطيع فيه النساء الكتابة بحرية، دون خوف، دون قيود، ودون الحاجة لعبور الحدود، في أي مكان يكنّ. لكن حتى ذلك اليوم، ستظل الكتابة شكلاً من أشكال المقاومة، ولن تنطفئ شعلة هذه المقاومة أبدًا.